اختيار الزوجة
جلس مقداد يتحدث مع أمه في ساعة اختار أن تكون من الساعات التي ترى فيها منشرحة الصدر منبسطة الوجه قال : أن لدي فكرة أرجو أن تدخل على قلبك السرور يا أماه فأجابته باندفاع ولهفة قائلة : وهل أجد منك إلا ما يسعدني يا بني ؟ فما هي فكرتك هذه يا عزيزي ؟ قال : أنني أكملت دراستي كما تعلمين وأصبحت قادرا على فتح بيت وتحمل مسؤولية أسرة ، ولهذا فقد عزمت أن أجد لي شريكة حياة ؛ فأشرق وجه الأم بابتسامة عريضة وقالت : يا لها من فكرة رائعة ويا لها من بشرى سارة لقد كنت أنتظر هذا اليوم يا ولدي وكم تمنيت لك هذه وتلك ممن تزوجن من بنات عشيرتنا والحمدلله الذي جعلك تفكر بالأمر قبل أن يفوت الأوان ، فكرر مقداد الجملة الأخيرة في استغراب قائلا : قبل أن يفوت الأوان ؟ قالت : نعم ، أعني موضوع ابنة عمك حذام فهي مستحقة للزواج ولا يخلو بيتهم دوماً من خاطب ، فسكت مقداد لحظة ثم قال بنغمة حاول أن تكون لينة : إذن فلماذا نزاحم هذه المجموعة من الخطاب ؟ فبهتت الأم وقالت في تعجب : ما الذي تعنيه يا مقداد ؟ قال : أقصد أن ابنة عمي لا تلائمني يا أماه ، فشهقت الأم في استغراب وقالت : لا تلائمك ؟ وكيف ؟ من هي أحسن منها ؟ لا لا يا بني أنك غلطان وسوف أذهب منذ الغد لاجراء مراسم الخطبة ، فأجاب مقداد في فزع : إياك أن تقومي بشيء من هذا يا أماه لأنني غير راغب في الموضوع ، قالت : ولكنك إذا علمت أنها أصبحت خطيبتك سوف تبدأ تنسجم معها فدع عنك هذه الأقاويل واعلم انني لا أريد الا مصلحتك وسعادتك فهي جميلة وصاحبة وظيفة محترمة أقصد مثقفة . قال مقداد : لا يا أماه أن هذه الخطوة هي ما يخصني أنا بالذات ولهذا فاتركي أمر التفكير في موضوع حذام ، فسكتت الأم وكأنها تحاول أن تستحضر في ذهنها موضوعاً جديداً ثم قالت : طيب إذن فليس هناك من هي أجدر من ابنة خالك إذا عدونا حذام ؛ فهذه لا تقل عن تلك جمالا وهي وإن كانت غير موظفة ولكن خالك رحمه الله قد أورثها تركة معتد بها مما يمكنك أن ... فقطع مقداد متسلسل حديثها قائلا في نفور : لا لا أرجوك يا أماه فكري معي بشكل موضوعي فأنا أريد شريكة حياة ولا أريد شركة تجارية . فظهر الغضب على الأم وقالت في حدة : وما الذي يعوز ابنة خالك أن تكون لك شريكة حياة أيضاً ؟ قال : أنها يا أماه لا تشاركني أفكاري ومعتقداتي ولهذا فليس في إمكانها أن تكون شريكتي في الحياة ، فضحكت الأم في سخرية وتهكم وقالت : أنك تتكلم وكأنك ملاك لا يجد شريكة حياته إلا في حورية ، ألا تترك هذه الكلمات الفارغة يا بني ، أنك شاب مثقف حائز على شهادة راقية فلا يليق بك أن تفكر على هذا الشكل الخيالي يا مقداد ، فقال مقداد : أنني لست ملاكا ولا أحاول أن أفتش عن حورية ولكنني انسان مسلم افتش عن فتاة مسلمة ملتزمة بأحكام الاسلام وآدابه . قالت الأم بلهجة قاطعة : إذن فأنك سوف تبقى بدون زواج لأنك لن تجد فتاة تناسبك مع هذه المواصفات ، فابتسم مقداد في رفق وقال : لو حاولنا لوجدنا يا أماه . قالت : وكيف وجميع البنات اللواتي أعرفهن لا يمثلن فكرتك هذه ؟ قال : ولكنني أعرف من تتمثل بها هذه الشروط ؛ فاستفزها الجواب وقالت في استغراب : أنت تعرف ! من هي مثلا ؟! ومتى أصبحت ممن ينشىء علاقات خاصة مع البنات ؟ فأثارت هذه الكلمة أعصاب مقداد ولكنه تمكن من التحكم بها ولهذا رد عليها قائلا : أنني لا أقصد من معرفتي المعرفة المباشرة ولكنني أعني بها معرفتي بوجود مثل هذه الفتاة . قالت : ما أراك إلا وقد حددت موضوعا خاصا تريد أن تستدرجني إليه فمن هي هذه ( الست المحترمة ) يا سيد مقداد ؟ فابتسم مقداد ابتسامة مرة لهذا التهكم من امه ولهذه البداية المتعبة ثم قال : أرجوك أن تكوني أكثر تفهما لموقفي يا أماه ، وقد كنت أتمنى أن تقفي إلى جانبي في هذا الأمر وتحاولي اقناع والدي في هذا الموضوع فإن عاطفة الأمومة من حقها أن تتغلب على كل المشاعر الأخرى . وكأن كلمات مقداد الهادئة وعباراته التحببية جعلتها تركن إلى الليونة نوعا ما فقالت بشيء من الرفق : وحق عينيك يا ابني أنا لا أفكر إلا من زاوية مصلحتك الخاصة . قال مقداد : إذن فأنا أطلب منك أن تسانديني في خصوص هذه الخطوة فأنا أعرف بمصالحي يا أماه . قالت بعد فترة تردد : نعم ما دام في ذلك ما يرضيك مع عدم تحملي لمسؤولية العواقب ، والآن أين الموضوع الذي تريده يا مقداد ، وما هي شمائل تلك الفتاة السعيدة التي نالت رضاك ؟ قال : أنني لا أنظر إليها إلا من الجانب الديني ، فهي كما أعرف عنها فتاة محجبة مؤمنة . قالت : آه ، إذن فهي غير مثقفة ؟ قال : أن لديها بعض الثقافة العامة وهي من الناحية الدينية مثقفة جدا . قالت : مثلا ما هي الشهادة التي حازت عليها ؟ قال : السادس الاعدادي يا أماه وهو قدر يمكنها أن تفهم ما يفيدها في الحياتين .
قالت : ومن أية أسرة هي يا ترى ؟ قال : أنها ابنة بيت عرف بالأمانة والصلاح وقد أعطى عنه سمعة حسنة خيرة . قالت الأم : آه ، إذن فهي لا تنتمي إلى أسرة محترمة مرموقة ؟ قال : وما هو تأثير الأسرة المرموقة إذا كانت الفتاة ذات أخلاق غير صالحة وذات طابع غير محترم
وهنا شاهد مقداد أن وجه أمه أخذ يكتسي طابع الصرامة شيئا فشيئا فاستعاذ بالله في سره من ذلك وأردف يقول في رفق : أن السعادة الزوجية لا تعتمد على المال والجاه والمقام يا أماه ولكنها تنطلق من زاوية التقارب الروحي والفهم المشترك لحقيقة الحياة .
وهنا أجابت الأم بنغمة جافة قائلة : وما هي مهنة أبيها يا ترى ؟ قال : أنه بقال يا أماه . فشهقت الأم وقالت : بقال !!؟ قال : نعم ، ولكنه رجل صالح أنشأ جيلا خيّرا فاضلا من الأبناء وكوّن أسرة مؤمنة سعيدة ، فقطعت الأم كلامه قائلة في توتر واضح : وأنت . أنت ابن الأشراف . ابن المال والثراء وربيب الثقافة والعلم . أنت حامل أعلى شهادة بشبابك وجمالك تريد أن تقرن حياتك مع ابنة بقال ؟ يا للعار ! ثم تريد أن أكون أنا واسطتك في ذلك ؟ قال : ولكن ما هو رأيك لو كنت قد اخترت ابنة بائع مجوهرات ؟ قالت : إن ذلك يعد تاجرا وشتان بين البقال وبائع المجوهرات يا مقداد ! قال مقداد : ان الفرق يبرز من الناحية المالية فقط وإلا فإن هذا يبيع خاتما وذاك يبيع سكرا ، كلاهما عاملان في سبيل البحبكب من أجل العيش . قالت : ولكن تصور ردود الفعل لدى أبيك وأخيك . قال : لن تكون أسوأ من ردود الفعل لديّ بالنسبة إلى اختيار أخي لزوجته وموافقتكم على ذلك مع أنها فتاة متحللة غير ملتزمة ، وعلى كل حال فإن هذه هي رغبتي وهو قراري النهائي ، فأما أن تقدمي أنت لأجل انجاز الموضوع أو استقل بنفسي في الأمر . قال مقداد هذا بأسلوب صارم جاد عرفت الأم منه أنه يعني ما يقول ، فضحكت في سخرية وقالت : وهي أن الموبضوع يحتاج إلى إقدام وإنجاز ؟ إن أقل إشارة منك تجعلهم يقدمون لك ابنتهم بكل سرور . فهز مقداد رأسه في تشكيك وقال : إذن جربي لنرى . قالت : ما أعجب هذا ! أذهب لأخطب لابني ابنة بقال ؟ أي جمال تمتلكه هذه الفتاة جعلك ترغب فيها وتغمض عن كل شيء ؟ قال : اقسم لك يا أماه بأنني ما رأيتها من قبل . قالت : إذن فما يدريك ولعلها قبيحة ؟ قال : لا ، أنا أعلم بأنها ليست هكذا ، ومع وجود الفضائل التي تتحلى بها لا تعود درجة الجمال تهمني يا أماه . قالت : أما والله أن عجبي لا ينقضي منك يا مقداد ! ولكن بأي وجه سوف تقابل أباك وأنت تحمل معك هذا الاقتراح ؟ قال : بالوجه الذي أُقابل به ربي يا أماه ، ولكنني أرجو منك أن لا تقفي ضدي وأن تساعديني ما وسعك ذلك ...
***